بين عشق النبي وقتل الحُمر-علي عدنان آل طعمة /العراق
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

بين عشق النبي وقتل الحُمر

  علي عدنان آل طعمة    

أيقظني من سرحاني صوت العلال وهو يطلق إشارة الهجوم، قبل أن يخرج الجميع عن يميني ويساري من الخنادق ليتركوا لسيقانهم العنان في أخذهم إلى الأمام وهم يجيبون نداءه بهتاف "اللهم صل على النبي". جمدت لحظة واحدة ثم انتبهت إلى أن ساقيّ لا تتحركان. أنظر إلى الأسفل فأرى يديّ قابضة على بندقيتي التي لم أطلق منها طلقة واحدة منذ أن خرجت من ميدان التدريب، وركبت طائرة للمرة الأولى في حياتي عبرت بيّ نفس المضيق الذي أبحر عبره طريف وطارق وموسى ليفتحوا أسبانيا قبل أن يأتي أحفادهم (ألسنا أحفادهم؟) بعد ألف ومئتي سنة ليفتحوها من جديد. يتجاوز نظري يديّ لينصب على ساقيّ. كنت أريد أن أرى إن كانتا لا زالتا في مكانهما، إذ انتبهت إلى أنني لم أعد أحسّ بهما. لا هما تتحركان ولا هما ترتجفان. لا لم يشلني الرعب أو التردد وفي الحقيقة لا أدري أي شعور كان ينتابني غير الاستغراب، الاستغراب من ساقيّ اللتان بدتا وكأنهما تنتميان لشخص آخر وليس لي، و الاستغراب من هتاف "يا العاشقين" التي بدأ بها الهجوم. كل ذلك ربما لم يطل أكثر من ثانيتين أو ثلاث قبل أن أستفيق ثانية من سرحاني الثاني على يد تقبض على ذراعي اليسرى وتدفع بي إلى الأمام. لم ألتفت إلى من كان يدفعني، عدت لأنظر إلى ساقيّ فأراهما تتحركان دون إرادة مني. أتطلع إلى مقدمتي فأرى رفاق السلاح، الذين لم تتجاوز رفقتي لهم يوماً وبضع اليوم، يهرولون، وقد تقوست ظهورهم وهم يحنون قامتهم وكأنهم يصغرون أحجامهم علّ طلقات العدو لا تصيبهم، وهم لا يزالون يهتفون "صلوا على النبي".


 صرت أفكر بهذه العبارة "صلوا على النبي". خطر ببالي: ماذا لو أن النبي سمعنا اليوم؟ هل كان ليبارك هؤلاء الرجال الذين يلهجون ألسنتهم بذكره في لحظات قد تكون آخر لحظات حياتهم؟ أترى هل يكافؤهم على هذا الإخلاص في الذكر؟ أم هل سياعتبنا على أن نأتي باسمه في حرب أتينا إليها لا لنعيد إلينا أرض أجدادنا بل لننصر أحفاد من طردوهم. لماذا نحن هنا؟


 تذكرت أحد الشيوخ المنادين في قريتنا وهم يحذرون الناس من أن إذا انتصرت الشيوعية في أسبانيا فستقضي على الدين في المغرب. لا لم يكن هذا ما دفعني للتجند ولكن .. هل أصبحنا فعلاً فجأة حلفاء هؤلاء؟ 


فقت من أفكاري ثانية. أيقظني أزيز طلقة مرت بجانب أذني. اللعنة لا بدّ من التركيز، أنا في ساحة معركة، ما هذه الأفكار. ولكن أين من كانوا أمامي؟ ما تزال ساقاي تأخذانني إلى الأمام. أرى يدي اليمنى تمسك بإبرة البندقية وتقوم بأربع حركات سريعة عنيفة، فتدير الإبرة إلى الأعلى، ثم تسحبها إلى الخلف قبل أن تعيد دفعها إلى الأمام وتديرها إلى الأسفل. لا بدّ أن يديّ تردّان على الطلقة التي أيقظني أزيزها من غفوتي. ترفع يداي البندقية، ولا أقول أرفع البندقية فأنا غير متأكد من أنني أفعل ذلك واعياً، وتسندانها على كتفي. سبابتي تضغط على الزناد و..بووم! على من أطلقت؟ في أي جهة أنا أجري؟ أين البقية؟ ألتفت إلى اليسار فأرى خلف كتفي البقية وقد أصبحوا خلفي، يحاولون اللاحق بي ولا يفلحون، أم هل يحاولون اللحاق بساقيّ؟ لا أدري. بدا لي وكأن رأسي أو شيئاً منه هو الجزء الوحيد من جسمي الذي أتحكم به. لا زالوا يهتفون ويصرخون. أعود لألتفت إلى ما يواجهني فأرى نقاطاً بدأت تكبر لتصبح رؤوساً وعيدان كبريت تتحول إلى أذرع وجذوع أجسام. آه طبعاً. نحن في هجوم، وهل هناك هجوم بلا عدو؟ إنهم الحُمر إنهم "الروخو". ولكن...لماذا لم لم أصب أنا؟ أتراني أصبت دون أدري؟ من يدري، فإذا كنت بالكاد أعي ماذا تفعل ساقيّ ويديّ فكيف سأحسّ بهما إذا أصيبتا بطلق. ترى هل يحسّ الحُمر بألم في حمى المعركة إذا أصابتهم طلقة من طلقاتي؟  أترى هل تصلهم صيحات رفاقي وهم يصلون على النبي؟ لا أحسب الحُمر يفقهون مغزى "يالعاشقين النبي" وأنى لهم أن يعرفوا العربية؟ لا بدّ أنهم لا يسمعون في الصلوات إلا عويلاً أو ضجيجاً هي في آذانهم أقرب إلى أصوات الشياطين أو الجنّ منها إلى أصوات أناس وضعوا مصيرهم بين الأرض والسماء ويحاولون بصلواتهم إما أن تحميهم يد الإله أو ترفق بهم فتأخذهم إلى الجنة إن سقطوا. 


لا، لا، لا. لقد سرحت ثانية. لقد كان لي أن أعلم أن هذه الحرفة لا تليق بي. ماذا جاء بي إلى هنا وأنا الذي كان سرحاني وطبعي موضع سخرية والطلبة والجيران والأهل بل ذهب البعض ليتندر عليّ فيقول: لم لا تسأل أبويك إن كانوا وضعوك وأخاً لك في نفس الجسم. ربما كان عليّ أن أكون فيلسوفاً أو صوفياً كما قال لي شيخ المكتب لا عسكرياً، لكن سامح الله الذي كان السبب في هذا. 


أفق! أفق! ثم أفقت. لقد وصلت! أنا في خندقهم. في خندق الحُمر. حيث كانت تقبع النقاط وأعواد الكبريت. ساقاي قد توقفتا عن الحراك. يدي اليمنى ساحبة إبرة البندقية للخلف فاتحة مخزنها كاشفة عن فراغه من الذخيرة. أنظر أمامي فتتراءى لي أطياف لرجال تتحول رؤوسهم شيئاً فشيئاً إلى نقاط صغيرة وأذرعتهم وجذوعهم وسيقانهم إلى أعواد كبريت كما كانت أول المرة، ثم تختفي الأطياف. لقد هربوا. أنظر إلى ما حولي. أجساد، منها ما فتحت ثغرها وعينيها دهشة. منها ما استغرق في نوم عميق ومنها...منها واحدة تمددت أمامي وقد أخفى وجهها كفان مفتوحان باتجاهي. أتراني مسؤولاً عن هذا؟ هل طلبت مني هذه الجثة حين كانت رجلاً قبل أن أحوّله جثة ألا أطلق رصاصتي الأخيرة عليها؟ أهذا ما تبوحان به الكفان؟ ولكني لا أذكر. لا أذكر كيف وصلت وماذا فعلت وماذا فعلوا. 


تناديني أصوات من تبعني إلى داخل الخندق وهي تلهث ثم تلهث حتى إذا انتهى لهاثها صارت تهتف فرحة بالنصر ثم وهي تصب اللعنات على الفارين من الحُمر "يا أبناء كذا وأبناء كذا...تعالوا أيها الجبناء". تناوبتني الأيدي وهي تربت على كتفي، والألسن وهي إما تمدح أو تسأل كيف لشاب دخل معركته الأولى أن يسبق الجميع إلى الأمام دون أن يحاول مرة واحدة الاختباء خلف شجيرة أو صخرة أو طيّة في الأرض وأن يرمي جرياً فيصيب مع كل طلقة عدواً ثم لا يصاب بخدش؟ هززت كتفي وأجبت ببساطة "لا أدري". تناول الرقيب الأسباني يديّ مهنئاً وواعداً إياي بأنه سيفعل ما بوسعه ليرشحني للميدالية العسكرية أو كما يسمونها هنا "لا ميدايا ميليتار".  ثم سألني "فيم كنت تفكر وأنت تجري كالعفريت؟". أجبته "لا أدري، أحسبني كنت في عالم آخر. كنت نائماً في الطريق وأفقت عند الوصول". ضحك الجميع وردّ الرقيب "لا بد أنك دُربت جيداً إن كنت تفعل كل هذا بلا تفكير، وإن كنت اعترف أنني سمعت بمثل هذه الأمور ولم أشهدها من قبل. على كل إذا كنت تقاتل هكذا وأنت نائم فاقض بقية الحرب نائماً فقد تكسبها لوحدك ويزول عنا هذا الكابوس عاجلاً. والآن يا رجال ابحثوا عن العتاد والأكل والشراب، سنقوم بنصب..."


تلاشى صوت الرقيب في أذني وقد علقت كلمة الشراب في ذهني، وأنا أفكر هل يقصد الشراب المحرم؟ هل يشرب رفاقي الخمر؟ هل يمكن أن يصلوا على النبي قبل هنيهة ثم يشربون الآن؟ ماذا فاعل أنا إن كانوا يشربون؟ هل سأكون وحدي عفيفاً عن هذا؟ أم هل من الخير مجاراتهم؟ ترى ما يكون طعمه؟ هل...


"هل ستساعدنا في البحث أم ماذا؟" ...إنه العلال واقفاً يلوّح بيديه قبالة وجهي وكأنه يتأكد من أنني أراه


"ماذا؟ آه نعم نعم بالتأكيد..كنت أفكر فقط في..لا عليك فلنبحث"





 
  علي عدنان آل طعمة /العراق (2015-09-10)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

بين عشق النبي وقتل الحُمر-علي عدنان آل طعمة /العراق

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia